• ×
الإثنين 15 سبتمبر 2025 | 09-14-2025

الخريف .. نشيد الذبول الجميل

الخريف .. نشيد الذبول الجميل
0
0
الآن -

حين تبدأ السماء في التثاؤب ، يأتي الخريفُ على مهل، كمن يخشى أن يُوقظ الأشجار من غفوتها الصيفيّة.
يطلُّ ضيفًا رماديّ الوجه، رقيق الخطى، حزين النظرة، لا يخلو من الهيبة ، ولا يُعلن وصوله بالأهازيج، بل بهمسةِ ريحٍ باردة، وبورقة صفراء تسقط فجأة بين يديك، فتفهم أن الوقت قد تبدّل، وأن الفصول لا تحتاج إلى ضجيج كي تُثبت حضورها.

شاعرٌ هرِم، جاب العمر وعاد حاملاً في يده عنقودًا ناضجًا، وفي عينيه ضبابُ السنين ، يكتب قصائده بالألوان المتكسّرة على أغصان الشجر، وبالندى العالق على زجاج النوافذ في الصباحات الكسلى ، فيه يُصبح الصمت أكثر بلاغة من الكلام، والسكون أكثر عمقًا من الضجيج.

الأشجار تتخفف من أعبائها، كمن يخلع معطفه ويمضي عاريًا في حضرة الحقيقة ، تتساقط الأوراق احتفاءً بالتحوّل، فكلّ سقوطٍ هو شكل آخر من أشكال النُضج ، هو الذبول، حين يكون اختيارًا حرًّا، لا خضوعًا للعدم.

الضباب سرُّ الخريف الأزليّ ، يأتيك كستارةٍ من حلمٍ ناعم، ثمّة رائحة لا تشبه شيئًا، تنبعث من الأرض حين تبتلُّ بأمطار الخريف الأولى، كأن التراب نفسه يحنّ إلى الحياة ، وثمّة صوتٌ خافت للثمار وهي تتهيّأ للحصاد .
ليس من وداع ، بل عودةٌ إلى الداخل ، إلى الذات التي تهجع تحت ضجيج الحياة اليومية، تستيقظ فقط حين تهدأ الفصول، ويتسلّل النسيم إلى القلب كأنغامٍ قديمة من آلة وترية منسيّة.
فصلٌ يُربّت على كتفك، ويقول لك: لا بأس إن تغيّرتَ، لا بأس إن كنتَ صامتًا، ناضجًا ومتأملاً.

الأشياء لاتغيب، بل تُرى على حقيقتها، في وضوحٍ خافت، وجمالٍ لا يصرخ .
فيا أيها العابر في دروب الخريف تمهّل ..
استنشق الضباب كمن يستنشق قصيدة، وراقب الثمار كأنك ترى الحياة تُقدَّم لك على طبق من ذهب الزمن .